قاعدة الطرابيش في بلاد المناقيش
هل فتح الإسلام تمت بصلة إلى القاعدة؟ سؤال تداوله اللبنانيون حين ظهر اسم فتح الإسلام في الساحة. وتردد بشكل أكبر، وعلى مستويات أوسع من لبنان حين حدثت المواجهة بين الجماعة والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في طرابلس. وكعادة كل شيء في لبنان، كانت الإجابة سياسية، نفيا وقبولا، لكي تخدم أغراض اتجاه سياسي ما. مع غيبة لتحليل موضوعي تحتاج إليه بيروت بشدة لكي تعرف كيف تتصرف مع هؤلاء.
من سأشير إليه بـ "محدثي" هنا هو شخص ممن سموا يوما "الأفغان العرب". شباب سافروا من مختلف الدول العربية إلى أفغانستان لكي يكونوا الصف الأمامي لقتال الاتحاد السوفييتي. بدعم من حكومات دول عربية والقوة العظمى الأخرى في ذلك الوقت، الولايات المتحدة.
عراب الانتقال وقتها كان الشيخ عبد الله عزام. فلسطيني من أنصار فكرة عالمية النضال الإسلامي، وإسلامية المعركة في فلسطين المحتلة، على اعتبار أن إقامة دولة إسلامية مجاهدة في بقعة من بقاع الأرض سيكون قاعدة لإحياء "الصحوة الإسلامية" في العالم الإسلامي بأثره، وذلك هو الكفيل يوما ما باسترجاع "أرض الإسلام السليبة". وعن طريق هذا العراب ذهب محدثي "للقيام بأعمال إغاثة إسلامية"، كما ذهب آخرون من بينهم مثلا "أبو عائشة"، الإسلامي المتشدد الذي قتل أثناء مواجهات الضنية عام 1999. وهو غادر أفغانستان، كما غادرها أبو عائشة، عام 1989، لكنه على عكس الإسلامي القتيل الذي عاش في دولة غربية هي كندا فإن "محدثي" عاد إلى دولة عربية قبل أن يعود إلى بلده. ومن بلده تابع الحركة الإسلامية وكان فردا فيها، وشارك في مواجهة مع قوات الأمن كانت نتيجتها إصابته في قدمه.
هل تعتقد أن فتح الإسلام على علاقة بالقاعدة؟ سألت محدثي.
كانت إجابته قاطعة. لا تردد فيها. وأن بصوت أخفض من صوته الذي خاطبني به من قبل، فالموضوع بالنسبة له هنا محسوم بصورة لا حاجة معها إلى رفع الصوت سبيلا إلى توصيل الفكرة، على العادة الخطابية لدى الأصوليين. "القاعدة لن تكرر خطأها الاستراتيجي في العراق".
وما هو الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته القاعدة في العراق؟ استوضحت.
"أنها لحقت بأبو مصعب الزرقاوي بدل أن تقوده". أبو مصعب من وجهة نظر محدثي كان يشعر دائما أنه زعيم. وما قاله محدثي ليس معلومة جديدة. فمسار أبو مصعب الزرقاوي ثابت فيه خلافه مع أسامة بن لادن ثبوتا قطعيا. خلاف جعل أبو مصعب ينتقل إلى شمال العراق ليؤسس جماعة جديدة. كما أن المراسلات بينه وبين الرجل الثاني في القاعدة "أيمن الظواهري"، تثبت أنه كان يعرض إعلان الولاء لزعيم القاعدة "أسامة بن لادن" مقايضا ذلك بإقراره على استراتيجيته "للجهاد في العراق" والتي تشمل إلى جانب مقاومة الأمريكيين محاربة شيعة العراق الذين رأى أنهم تحالفوا مع الأمريكيين.
لكن الظواهري أظهر في رسالة منه إلى الزرقاوي أنه لا يزال معترضا على مثل هذه المواجهة من باب أنه لا حاجة لفتح جبهات جديدة. وتساءل مستنكرا "فلماذا الهجوم على عوام الشيعة؟... وهل حاولت أي دولة إسلامية في التاريخ ذلك؟" وفي الرسالة نفسها تساءل لماذا لم يقدم أهل السنة في تاريخهم على تدمير مراقد الأئمة. كما اعترض الظواهري أيضا على مشاهد ذبح الرهائن، معتبرا أن القتل بالرصاص يؤدي الغرض. وقال لأبو مصعب: "لا يغرنك ثناء بعض الشباب المتحمس ووصفهم لكم بشيخ الذباحين وما أشبه..."
ويرى محدثي هنا أن نوعا من المساومة حدث، فالقاعدة من جانبها رأت أن أبو مصعب حقق إنجازات في العراق أرادت أن تنسب إليها. في حين أن أبو مصعب قدم تنازلا في موضوع الشيعة حين أعلن عن استثناء جيش المهدي من الهجمات عليه. على اعتبار أنه يطالب بخروج "الاحتلال".
في تلك الفترة، تحول اسم جماعة الزرقاوي من "التوحيد والجهاد" إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين". وهو تعميد رسمي، لكنه جاء قبل أن يعلن الزرقاوي الالتزام الكامل بما أرادته القاعدة. وهذا، من وجهة نظر محدثي، خطأ، لكنه يضيف أنه لم يكن كل شيء. لأن إيران ضغطت على جيش المهدي لكي يثبت ولاءه وإلا قضي عليه. وسافر آية الله علي السيستاني إلى لندن في رحلة قيل إنها كانت للعلاج لكي يرفع الغطاء عن جيش المهدي المحاصر وقتها في الكوفة. ولاحقا، حسب نظرة الأصولي السني الذي أنقل عنه هنا، تمادى جيش المهدي في الهجمات على السنة لكي يثبت أنه المدافع عن الشيعة في العراق.
يطرح محدثي هذا السياق العراقي وصولا إلى أن القاعدة رأت ما حدث في العراق ولا تريد تكراره في دولة أخرى مثل لبنان.
في الوقت الحالي، يتعرض تنظيم القاعدة في العراق إلى مواجهة مع جماعات سنية. تختلف التقديرات حول حجمها وأهدافها وجهات تمويلها، لكنها موجودة. والسبب الذي يسوقه من أعلنوا هذه الحرب على القاعدة هو أن الاستراتيجية التي أرساها الزرقاوي من استهداف عراقيين عادت عليهم بالوبال وحرفتهم عن الطريق الطبيعي في مواجهة الاحتلال. وحتى لو صح أن الجماعات السنية تلك تعمل مع الأمريكيين فإن ذلك يعني أن استراتيجية الزرقاوي فتحت للأمريكيين ثغرة دخلوا منها إلى الحصول على حلفاء جدد، ومؤثرين – ولو حتى معنويا – في حربهم مع التنظيم الأشرس في الهجمات عليهم. ولا شك أن الظواهري سيتذكر في هذا السياق ما قاله في رسالته للزرقاوي: "وأكرر التحذير من الانفصال عن الجماهير أيما تحذير."
وإذا انطبق هذا التحذير على العراق، فإن "الانفصال عن الجماهير" أوضح في الحالة اللبنانية بتعقيداتها الطائفية والسياسية.
لكن يبدو أن فتح الإسلام اتكلت على استمرار هذه السياسة الطربوشية، أي ارتداء طربوش القاعدة كطريق أقصر إلى إشاعة الخوف وتشتيت الحسابات، وموافقة القاعدة على توزيع طرابيشها لمن هب ودب من الجماعات في سبيل الحصول على وريث يبقي اسمها حيا، وأرادت أن تكرر ما فعله الزرقاوي في العراق.
وفي غياب تعليق رسمي من القاعدة حتى الآن، يعتقد إسلاميون في لبنان وخارجه أن القاعدة نفسها تنبهت للفخ هذه المرة.
وأي متابع لفكر القاعدة لا يشك لحظة في أنها تسعى إلى توسيع قاعدة الحرب المقدسة. لكنها، في الحالة العراقية، تضع ذلك في سياق يجعل فيه الظواهري "مد الموجة الجهادية إلى ما جاور العراق من دول علمانية" مرحلة ثالثة، تأتي بعد "إخراج الأمريكان من العراق" و"إقامة سلطة أو إمارة إسلامية... على أكبر جزء ... من العراق."
ولبنان، كما سورية والأراضي الفلسطينية، مؤهلة جغرافيا للمرحلة الرابعة من نظرة الزرقاوي وهي "المواجهة مع إسرائيل". ولعله بادر إلى تأييد حركة حماس في سيطرتها على غزة من هذا الباب، على أساس أن المواجهة مع إسرائيل هناك أمر واقع يتجاوز المراحل السابقة، على خلاف ما أشيع عن محاولة فتح الإسلام، من الآن، إقامة إمارة إسلامية في جزء من شمال لبنان بينه وبين إسرائيل عوائق سياسية وديموجرافية.
ولا يعني ذلك أن فكرة المواجهة مع إسرائيل عن طريق لبنان كانت غائبة عن أصوليين سنة عاشوا فيه. الفارق هنا أن الفكرة كانت حاضرة ولكن من باب يختلف عن إقامة إمارة إسلامية أولا. فأبو عائشة مثلا – رغم أنه لم يلتحق بتنظيم القاعدة الذي أعلن عن نفسه قبل سنة واحدة من مقتله في أحداث الضنية – كان يفكر في خلق مقاومة سنية على غرار حزب الله في إقليم العرقوب "شبعا وكفار شوبا وبلدات أخرى، حوالي سبعة، التي كانت تسمى من قبل فتح لاند وقت المقاومة الفلسطينية." هكذا أخبرني رجل كان معه في جرود الضنية. بل وأجريت اتصالات لجس النبض مع مسؤول حزب الله في الشمال وقتها لكن الرد عليها لم يصل. وحين استعجبت من ظنهم بإمكانية ذلك سياسيا أخبرني رفيق أبي عائشة بأن الأمر لم يكن يعدو في ذلك الحين أكثر من حماسة افتقدت - حتى في نظر أناس كانوا جزءا من تلك المجموعة – أي قراءة سياسية، حيث اعتقدوا أن المقاومة فعل منزه وتضحية محض سيرحب بها الجميع، دون النظر إلى الاعتبارات اللوجستية للموضوع وبعدها السياسي في ميزان الداخل اللبناني والخارج الإقليمي.
وبالعودة إلى خيار إقامة "إمارة إسلامية" في لبنان، يذهب بعض الإسلاميين السنة إلى الإقرار صراحة باستحالة الخيار الجهادي المحلي. إيهاب البنا، أحد موقوفي الضنية الذين أفرج عنهم بمقتضى قانون العفو، يعيد ذلك إلى التعدد الطائفي اللبناني. وهو يقول إن إسقاط مسار الحركات الإسلامية المصرية أو الجزائرية على الحالة اللبنانية هو خطأ يقع فيه كثيرون. كانت هناك بالطبع فكرة لإقامة إمارة إسلامية في طرابلس، لكن في ظروف أمنية وسياسية مختلفة تماما. وبعد فشلها الذريع، تحولت إلى دليل على الاستحالة.
ويبدو أن ما أشير إليه هنا من استحالة الفكرة الجهادية في الداخل اللبناني، هو ما أرهق الخطاب الإعلامي لفتح الإسلام، التجمع الشمالي البعيد جغرافيا عن اللفظة السحرية لجذب المجاهدين والجمهور إلى السلاح والبارود – إسرائيل.
فتح الإسلام في هذا المأزق استخدمت لغتين مختلفتين في رسالتين بثتهما حين بدأت المواجهة. الأولى كانت تستدعي خطابا فلسطينيا شبيها بخطاب النضال اليساري أيام الحرب الأهلية اللبنانية، يركز على أوضاع الفلسطينيين المعيشية ومنعهم من العمل في قطاعات معينة داخل لبنان. وهو خطاب مختلف عن خطاب الإسلام الأصولي، حتى وإن استخدمه في بعض الأحيان.
أما الرسالة الثانية فاستدعت تهديد زعماء طوائف أخرى في لبنان وادعت الدفاع عن أهل السنة فيه، في إسقاط ساذج للنموذج العراقي، لم يذهب أبعد من استدراج الرئيس أمين الجميل إلى التلويح بحركة مسيحية في حال استهدف المسيحيون، تناقضا حتى مع ما تقول قوى الرابع عشر من أذار التي ينتمي إليها أنه خيارها – الدولة التي تدافع هي وحدها عن أمنها وسلامة أبنائها.
ورغم ذلك فإن القاعدة، وبعد أكثر من شهر على بدء المواجهات في نهر البارد، لم ترسل إلى الجماعة الجديدة طربوشا ترتديه. حتى حين قال الدكتور فتحي يكن بعد محاولة التفاوض مع مسلحي فتح الإسلام إن الموضوع صار في يدي التنظيم الدولي للقاعدة، لم يستطع أن يقدم، ولا قدم مسار الأحداث، على ذلك دليلا واحدا.
الآن ننتقل إلى نقطة أخرى.
إذا صح الافتراض أن فتح الإسلام لا ترتبط بالقاعدة، ولا حتى تحصل على بركتها فأي نوع من الإسلاميين مسلحو فتح الإسلام؟
يقول رفيق أبي عائشة إن الأرجح أن تنظيم فتح الإسلام هو خليط من إسلاميين ألقي القبض عليهم أثناء عودتهم من العراق ثم خيروا في سورية بين السجن أو الإعادة إلى بلدانهم أو الذهاب إلى لبنان، فاختاروا أسوأ الشرور، "اعتقادا منهم بأنهم يخدعون سورية – يذهبون إلى لبنان ويعملون بأجندتهم الخاصة."
وليس على ذلك دليل معروف إعلاميا، هناك اتهامات من جهات لبنانية لسورية تنفيها دمشق.
ويسترجع رفيق أبو عائشة أن كثيرا ممن كانوا في أحداث الضنية جربوا السجون السورية التي دخلوها بعد المواجهات بين السوريين وحركة التوحيد في طرابلس في الثمانينيات: "عبد الله هزيم، عبد الحكيم الجزار، محمد اليوسف، طلال الكيلاناكي"، وأن هذه التجربة جعلتهم يستبعدون خيار الاستسلام وقتها خوفا من تسليمهم للقوات السورية التي كانت لا تزال موجودة في لبنان.
بالنسبة لفتح الإسلام، يعتبر أن الموضوع ليس بهذه البساطة، والأصح الافتراض أن هناك خليطا يجمعه السلاح ولا يجمعه الانضباط التنظيمي. بمعنى أن تصرفات بعض عناصر من المجموعة تلزم الآخرين في تحمل المسؤولية حتى وإن كانوا معترضين على تلك التصرفات بداية، على اعتبار أن المسألة بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، ولا خيار متاحا لهم.
ولعله من اللافت هنا أن شاكر العبسي (وهو فلسطيني أردني محكوم بالإعدام في الأردن وألقي القبض عليه في سورية حيث سجن لمدة سنتين قبل أن يظهر مرة أخرى في لبنان) كان القائد الأبرز لجماعة فتح الإسلام لدرجة أن بعض وسائل الإعلام اللبنانية سمت الجماعة "عصابة شاكر العبسي"، لكنه اختفى عن الواجهة بصورة تامة بعد أيام من القتال، وحل محله شخص لم يكن معروفا سابقا، ولا هناك خريطة واضحة لمساره الحركي، شاهين شاهين (شاهين الشامي حسب روايات). وبعد ظنون بأن سبب الاختفاء ربما يكون مقتل العبسي أو إصابته إصابة أقعدته أفاد الطبيب الذي كان يعالج مصابي فتح الإسلام أن تلك الظنون ليس لها من الحقيقة مكان.
وأحد التفسيرات المتداولة الآن هو أن سبب اختفاء العبسي ربما يكون إعادة هيكلة تنظيمية لصالح فصيل، أو رغبه في إبراز أشخاص لا تربطهم مساراتهم الحركية بجهة ما.
وهذه المسارات الحركية لمن يلقى عليه القبض من مسلحي فتح الإسلام أو المعروفين من قتلاها ستكون، حين الكشف عنها، الدليل الظني الأوضح عن طبيعة التنظيم والجهات التي سهلت عمله: هل كان لبنان محطة في طريق العراق – ذهابا أو عودة؟ أم أنه هدف في حد ذاته في إعادة توزيع منظم لخزان بشري من "المتحمسين"؟
هل فتح الإسلام تمت بصلة إلى القاعدة؟ سؤال تداوله اللبنانيون حين ظهر اسم فتح الإسلام في الساحة. وتردد بشكل أكبر، وعلى مستويات أوسع من لبنان حين حدثت المواجهة بين الجماعة والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في طرابلس. وكعادة كل شيء في لبنان، كانت الإجابة سياسية، نفيا وقبولا، لكي تخدم أغراض اتجاه سياسي ما. مع غيبة لتحليل موضوعي تحتاج إليه بيروت بشدة لكي تعرف كيف تتصرف مع هؤلاء.
من سأشير إليه بـ "محدثي" هنا هو شخص ممن سموا يوما "الأفغان العرب". شباب سافروا من مختلف الدول العربية إلى أفغانستان لكي يكونوا الصف الأمامي لقتال الاتحاد السوفييتي. بدعم من حكومات دول عربية والقوة العظمى الأخرى في ذلك الوقت، الولايات المتحدة.
عراب الانتقال وقتها كان الشيخ عبد الله عزام. فلسطيني من أنصار فكرة عالمية النضال الإسلامي، وإسلامية المعركة في فلسطين المحتلة، على اعتبار أن إقامة دولة إسلامية مجاهدة في بقعة من بقاع الأرض سيكون قاعدة لإحياء "الصحوة الإسلامية" في العالم الإسلامي بأثره، وذلك هو الكفيل يوما ما باسترجاع "أرض الإسلام السليبة". وعن طريق هذا العراب ذهب محدثي "للقيام بأعمال إغاثة إسلامية"، كما ذهب آخرون من بينهم مثلا "أبو عائشة"، الإسلامي المتشدد الذي قتل أثناء مواجهات الضنية عام 1999. وهو غادر أفغانستان، كما غادرها أبو عائشة، عام 1989، لكنه على عكس الإسلامي القتيل الذي عاش في دولة غربية هي كندا فإن "محدثي" عاد إلى دولة عربية قبل أن يعود إلى بلده. ومن بلده تابع الحركة الإسلامية وكان فردا فيها، وشارك في مواجهة مع قوات الأمن كانت نتيجتها إصابته في قدمه.
هل تعتقد أن فتح الإسلام على علاقة بالقاعدة؟ سألت محدثي.
كانت إجابته قاطعة. لا تردد فيها. وأن بصوت أخفض من صوته الذي خاطبني به من قبل، فالموضوع بالنسبة له هنا محسوم بصورة لا حاجة معها إلى رفع الصوت سبيلا إلى توصيل الفكرة، على العادة الخطابية لدى الأصوليين. "القاعدة لن تكرر خطأها الاستراتيجي في العراق".
وما هو الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته القاعدة في العراق؟ استوضحت.
"أنها لحقت بأبو مصعب الزرقاوي بدل أن تقوده". أبو مصعب من وجهة نظر محدثي كان يشعر دائما أنه زعيم. وما قاله محدثي ليس معلومة جديدة. فمسار أبو مصعب الزرقاوي ثابت فيه خلافه مع أسامة بن لادن ثبوتا قطعيا. خلاف جعل أبو مصعب ينتقل إلى شمال العراق ليؤسس جماعة جديدة. كما أن المراسلات بينه وبين الرجل الثاني في القاعدة "أيمن الظواهري"، تثبت أنه كان يعرض إعلان الولاء لزعيم القاعدة "أسامة بن لادن" مقايضا ذلك بإقراره على استراتيجيته "للجهاد في العراق" والتي تشمل إلى جانب مقاومة الأمريكيين محاربة شيعة العراق الذين رأى أنهم تحالفوا مع الأمريكيين.
لكن الظواهري أظهر في رسالة منه إلى الزرقاوي أنه لا يزال معترضا على مثل هذه المواجهة من باب أنه لا حاجة لفتح جبهات جديدة. وتساءل مستنكرا "فلماذا الهجوم على عوام الشيعة؟... وهل حاولت أي دولة إسلامية في التاريخ ذلك؟" وفي الرسالة نفسها تساءل لماذا لم يقدم أهل السنة في تاريخهم على تدمير مراقد الأئمة. كما اعترض الظواهري أيضا على مشاهد ذبح الرهائن، معتبرا أن القتل بالرصاص يؤدي الغرض. وقال لأبو مصعب: "لا يغرنك ثناء بعض الشباب المتحمس ووصفهم لكم بشيخ الذباحين وما أشبه..."
ويرى محدثي هنا أن نوعا من المساومة حدث، فالقاعدة من جانبها رأت أن أبو مصعب حقق إنجازات في العراق أرادت أن تنسب إليها. في حين أن أبو مصعب قدم تنازلا في موضوع الشيعة حين أعلن عن استثناء جيش المهدي من الهجمات عليه. على اعتبار أنه يطالب بخروج "الاحتلال".
في تلك الفترة، تحول اسم جماعة الزرقاوي من "التوحيد والجهاد" إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين". وهو تعميد رسمي، لكنه جاء قبل أن يعلن الزرقاوي الالتزام الكامل بما أرادته القاعدة. وهذا، من وجهة نظر محدثي، خطأ، لكنه يضيف أنه لم يكن كل شيء. لأن إيران ضغطت على جيش المهدي لكي يثبت ولاءه وإلا قضي عليه. وسافر آية الله علي السيستاني إلى لندن في رحلة قيل إنها كانت للعلاج لكي يرفع الغطاء عن جيش المهدي المحاصر وقتها في الكوفة. ولاحقا، حسب نظرة الأصولي السني الذي أنقل عنه هنا، تمادى جيش المهدي في الهجمات على السنة لكي يثبت أنه المدافع عن الشيعة في العراق.
يطرح محدثي هذا السياق العراقي وصولا إلى أن القاعدة رأت ما حدث في العراق ولا تريد تكراره في دولة أخرى مثل لبنان.
في الوقت الحالي، يتعرض تنظيم القاعدة في العراق إلى مواجهة مع جماعات سنية. تختلف التقديرات حول حجمها وأهدافها وجهات تمويلها، لكنها موجودة. والسبب الذي يسوقه من أعلنوا هذه الحرب على القاعدة هو أن الاستراتيجية التي أرساها الزرقاوي من استهداف عراقيين عادت عليهم بالوبال وحرفتهم عن الطريق الطبيعي في مواجهة الاحتلال. وحتى لو صح أن الجماعات السنية تلك تعمل مع الأمريكيين فإن ذلك يعني أن استراتيجية الزرقاوي فتحت للأمريكيين ثغرة دخلوا منها إلى الحصول على حلفاء جدد، ومؤثرين – ولو حتى معنويا – في حربهم مع التنظيم الأشرس في الهجمات عليهم. ولا شك أن الظواهري سيتذكر في هذا السياق ما قاله في رسالته للزرقاوي: "وأكرر التحذير من الانفصال عن الجماهير أيما تحذير."
وإذا انطبق هذا التحذير على العراق، فإن "الانفصال عن الجماهير" أوضح في الحالة اللبنانية بتعقيداتها الطائفية والسياسية.
لكن يبدو أن فتح الإسلام اتكلت على استمرار هذه السياسة الطربوشية، أي ارتداء طربوش القاعدة كطريق أقصر إلى إشاعة الخوف وتشتيت الحسابات، وموافقة القاعدة على توزيع طرابيشها لمن هب ودب من الجماعات في سبيل الحصول على وريث يبقي اسمها حيا، وأرادت أن تكرر ما فعله الزرقاوي في العراق.
وفي غياب تعليق رسمي من القاعدة حتى الآن، يعتقد إسلاميون في لبنان وخارجه أن القاعدة نفسها تنبهت للفخ هذه المرة.
وأي متابع لفكر القاعدة لا يشك لحظة في أنها تسعى إلى توسيع قاعدة الحرب المقدسة. لكنها، في الحالة العراقية، تضع ذلك في سياق يجعل فيه الظواهري "مد الموجة الجهادية إلى ما جاور العراق من دول علمانية" مرحلة ثالثة، تأتي بعد "إخراج الأمريكان من العراق" و"إقامة سلطة أو إمارة إسلامية... على أكبر جزء ... من العراق."
ولبنان، كما سورية والأراضي الفلسطينية، مؤهلة جغرافيا للمرحلة الرابعة من نظرة الزرقاوي وهي "المواجهة مع إسرائيل". ولعله بادر إلى تأييد حركة حماس في سيطرتها على غزة من هذا الباب، على أساس أن المواجهة مع إسرائيل هناك أمر واقع يتجاوز المراحل السابقة، على خلاف ما أشيع عن محاولة فتح الإسلام، من الآن، إقامة إمارة إسلامية في جزء من شمال لبنان بينه وبين إسرائيل عوائق سياسية وديموجرافية.
ولا يعني ذلك أن فكرة المواجهة مع إسرائيل عن طريق لبنان كانت غائبة عن أصوليين سنة عاشوا فيه. الفارق هنا أن الفكرة كانت حاضرة ولكن من باب يختلف عن إقامة إمارة إسلامية أولا. فأبو عائشة مثلا – رغم أنه لم يلتحق بتنظيم القاعدة الذي أعلن عن نفسه قبل سنة واحدة من مقتله في أحداث الضنية – كان يفكر في خلق مقاومة سنية على غرار حزب الله في إقليم العرقوب "شبعا وكفار شوبا وبلدات أخرى، حوالي سبعة، التي كانت تسمى من قبل فتح لاند وقت المقاومة الفلسطينية." هكذا أخبرني رجل كان معه في جرود الضنية. بل وأجريت اتصالات لجس النبض مع مسؤول حزب الله في الشمال وقتها لكن الرد عليها لم يصل. وحين استعجبت من ظنهم بإمكانية ذلك سياسيا أخبرني رفيق أبي عائشة بأن الأمر لم يكن يعدو في ذلك الحين أكثر من حماسة افتقدت - حتى في نظر أناس كانوا جزءا من تلك المجموعة – أي قراءة سياسية، حيث اعتقدوا أن المقاومة فعل منزه وتضحية محض سيرحب بها الجميع، دون النظر إلى الاعتبارات اللوجستية للموضوع وبعدها السياسي في ميزان الداخل اللبناني والخارج الإقليمي.
وبالعودة إلى خيار إقامة "إمارة إسلامية" في لبنان، يذهب بعض الإسلاميين السنة إلى الإقرار صراحة باستحالة الخيار الجهادي المحلي. إيهاب البنا، أحد موقوفي الضنية الذين أفرج عنهم بمقتضى قانون العفو، يعيد ذلك إلى التعدد الطائفي اللبناني. وهو يقول إن إسقاط مسار الحركات الإسلامية المصرية أو الجزائرية على الحالة اللبنانية هو خطأ يقع فيه كثيرون. كانت هناك بالطبع فكرة لإقامة إمارة إسلامية في طرابلس، لكن في ظروف أمنية وسياسية مختلفة تماما. وبعد فشلها الذريع، تحولت إلى دليل على الاستحالة.
ويبدو أن ما أشير إليه هنا من استحالة الفكرة الجهادية في الداخل اللبناني، هو ما أرهق الخطاب الإعلامي لفتح الإسلام، التجمع الشمالي البعيد جغرافيا عن اللفظة السحرية لجذب المجاهدين والجمهور إلى السلاح والبارود – إسرائيل.
فتح الإسلام في هذا المأزق استخدمت لغتين مختلفتين في رسالتين بثتهما حين بدأت المواجهة. الأولى كانت تستدعي خطابا فلسطينيا شبيها بخطاب النضال اليساري أيام الحرب الأهلية اللبنانية، يركز على أوضاع الفلسطينيين المعيشية ومنعهم من العمل في قطاعات معينة داخل لبنان. وهو خطاب مختلف عن خطاب الإسلام الأصولي، حتى وإن استخدمه في بعض الأحيان.
أما الرسالة الثانية فاستدعت تهديد زعماء طوائف أخرى في لبنان وادعت الدفاع عن أهل السنة فيه، في إسقاط ساذج للنموذج العراقي، لم يذهب أبعد من استدراج الرئيس أمين الجميل إلى التلويح بحركة مسيحية في حال استهدف المسيحيون، تناقضا حتى مع ما تقول قوى الرابع عشر من أذار التي ينتمي إليها أنه خيارها – الدولة التي تدافع هي وحدها عن أمنها وسلامة أبنائها.
ورغم ذلك فإن القاعدة، وبعد أكثر من شهر على بدء المواجهات في نهر البارد، لم ترسل إلى الجماعة الجديدة طربوشا ترتديه. حتى حين قال الدكتور فتحي يكن بعد محاولة التفاوض مع مسلحي فتح الإسلام إن الموضوع صار في يدي التنظيم الدولي للقاعدة، لم يستطع أن يقدم، ولا قدم مسار الأحداث، على ذلك دليلا واحدا.
الآن ننتقل إلى نقطة أخرى.
إذا صح الافتراض أن فتح الإسلام لا ترتبط بالقاعدة، ولا حتى تحصل على بركتها فأي نوع من الإسلاميين مسلحو فتح الإسلام؟
يقول رفيق أبي عائشة إن الأرجح أن تنظيم فتح الإسلام هو خليط من إسلاميين ألقي القبض عليهم أثناء عودتهم من العراق ثم خيروا في سورية بين السجن أو الإعادة إلى بلدانهم أو الذهاب إلى لبنان، فاختاروا أسوأ الشرور، "اعتقادا منهم بأنهم يخدعون سورية – يذهبون إلى لبنان ويعملون بأجندتهم الخاصة."
وليس على ذلك دليل معروف إعلاميا، هناك اتهامات من جهات لبنانية لسورية تنفيها دمشق.
ويسترجع رفيق أبو عائشة أن كثيرا ممن كانوا في أحداث الضنية جربوا السجون السورية التي دخلوها بعد المواجهات بين السوريين وحركة التوحيد في طرابلس في الثمانينيات: "عبد الله هزيم، عبد الحكيم الجزار، محمد اليوسف، طلال الكيلاناكي"، وأن هذه التجربة جعلتهم يستبعدون خيار الاستسلام وقتها خوفا من تسليمهم للقوات السورية التي كانت لا تزال موجودة في لبنان.
بالنسبة لفتح الإسلام، يعتبر أن الموضوع ليس بهذه البساطة، والأصح الافتراض أن هناك خليطا يجمعه السلاح ولا يجمعه الانضباط التنظيمي. بمعنى أن تصرفات بعض عناصر من المجموعة تلزم الآخرين في تحمل المسؤولية حتى وإن كانوا معترضين على تلك التصرفات بداية، على اعتبار أن المسألة بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، ولا خيار متاحا لهم.
ولعله من اللافت هنا أن شاكر العبسي (وهو فلسطيني أردني محكوم بالإعدام في الأردن وألقي القبض عليه في سورية حيث سجن لمدة سنتين قبل أن يظهر مرة أخرى في لبنان) كان القائد الأبرز لجماعة فتح الإسلام لدرجة أن بعض وسائل الإعلام اللبنانية سمت الجماعة "عصابة شاكر العبسي"، لكنه اختفى عن الواجهة بصورة تامة بعد أيام من القتال، وحل محله شخص لم يكن معروفا سابقا، ولا هناك خريطة واضحة لمساره الحركي، شاهين شاهين (شاهين الشامي حسب روايات). وبعد ظنون بأن سبب الاختفاء ربما يكون مقتل العبسي أو إصابته إصابة أقعدته أفاد الطبيب الذي كان يعالج مصابي فتح الإسلام أن تلك الظنون ليس لها من الحقيقة مكان.
وأحد التفسيرات المتداولة الآن هو أن سبب اختفاء العبسي ربما يكون إعادة هيكلة تنظيمية لصالح فصيل، أو رغبه في إبراز أشخاص لا تربطهم مساراتهم الحركية بجهة ما.
وهذه المسارات الحركية لمن يلقى عليه القبض من مسلحي فتح الإسلام أو المعروفين من قتلاها ستكون، حين الكشف عنها، الدليل الظني الأوضح عن طبيعة التنظيم والجهات التي سهلت عمله: هل كان لبنان محطة في طريق العراق – ذهابا أو عودة؟ أم أنه هدف في حد ذاته في إعادة توزيع منظم لخزان بشري من "المتحمسين"؟
No comments:
Post a Comment