تحالف النص والاستبداد
لا دنيا ولا جنة
خالد البري:
أفضل ما يمكن أن يحدث لكاتب في العالم العربي هو أن يمنع كتاب له. يصير بين عشية وضحاها مشهورا. على الأقل يسمع الناس بكتابه ويريد فئة لا بأس بها منهم أن يقرأوه. على سبيل المثال كتابي "الدنيا أجمل من الجنة" صار الآن يباع في طبعات غير قانونية على سور الأزبكية.
هذا وضع مزر. أن تتحول الكتب إلى قضايا في صفحة الحوادث.
منعت من قبل كتب لكتاب يستحقون، بسبب أفكارهم الأصلية غير المسبوقة، أن يكونوا مثارا للجدل. كتبهم كانت جديرة بأن تمثل ثورة فكرية: في الشعر الجاهلي للعظيم طه حسين، وأولاد حارتنا للعظيم نجيب محفوظ، هما مثالان. لكن الكتاب الذي كتبته ونشرته دار النهار عام 2001 لا ينتمي إلى هذه الفئة من الكتب. هو مجرد كتيب أصدرته النهار محقة في سياق مجموعة من الكتب يطلق عليها "شهادات". هو ليس أكثر من شهادة كتبت بأسلوب صحفي يلامس الروائي على استحياء ووجل وتردد من حين إلى آخر.
فلماذا منع؟ ولماذا لم يفكر مانعوه أنهم بمنعه يضعونه في مكانة هو غير جدير بها؟
مجلة روزا اليوسف المصرية نشرت لي حوارا، عنونته بتساؤل مني "حد يفهمني الفرق بين الشيوخ – الذين منعوا الكتاب – وبين المتطرفين؟" هذا تساؤل لم يصدر عني، وضعته المجلة على لساني. أولا، لا أسمي طائفة من الناس المتطرفين لأنني لا أنصب نفسي حكما على فكر أحد. ربما أسمي البعض قتلة لأنهم يفعلون القتل، أو مستبدين لأنهم يفعلون الاستبداد، لكنني لا أحب كلمة متطرفين إذ لا أفهمها. وثانيا لأنها تشمل كثيرين لو كانت كما أفهمها. في كل الأحوال هذه قصة ثانوية. والأهم منها أنني لم أطرح هذا التساؤل لأنني أعرف الفرق بين الشيوخ وبين الجماعات الإسلامية.
الجماعة الإسلامية التي كتبت عن تجربتي معها، وما عاصرها من جماعات، هي كيان موجود، معروف، متسق مع ذاته، يفعل ويتحمل نتيجة أفعاله،كما أنه يضحي من أجل أفكاره التي أختلف معها تماما. لكن الشيوخ الذين لا نسمع عنهم إلا في ذيل تقرير يمنع كتابا شيء آخر. هؤلاء يكتسبون باسم الدين، المنع والفتاوى هي وسيلتهم لكسب لقمة العيش، جزء من وظيفتهم ودورهم في المجتمع. وعلى ذلك، لو أصدروا يوما فتوى تغضب من يدفع رواتبهم فسوف يفقدون هذه الرواتب أو يفقدون المنصب. والأمثلة على ذلك كثيرة. هل يستطيعون مثلا أن يغلقوا مصرفا يتعامل بالربا؟ حاشا لله. هل يستطيعون أن يصدروا فتوى ضد ما ما يعرضه جهاز إعلام الدولة؟ أعوذ بالله. هل يستطيعون أن يصدروا فتوى ضد تزوير إرادة الناخبين؟ يا قوة الله. هل يستطيعون أن يصدرو فتوى ضد سياسة يقف وراءها مجلس الأمومة والطفولة الذي ترأسه حرم رئيس الجمهورية؟ ....ببساطة، الجماعات الإسلامية هي واحدة فقط من خطاياكم، هي مولود لتحالف النص والاستبداد.
لماذا منعوا الكتاب؟ أنا أحكي عن تجربتي الشخصية. إن كنت أسأت رسم صورة لأحد في هذا الكتاب فهي صورتي أنا. حتى الأشخاص الذين تحدثت عنهم من الجماعة ذكرتهم بأحسن صفاتهم، والشخصان الوحيدان اللذان كشفت عن أسرارهما هما شخصان نبذتهما الجماعة نفسها، ورغم ذلك لم أذكر اسم أي منهما. وكتبت عنهما بلا إدانة. ألبست في كتابي الأفكار التي تستمدها الجماعة من الدين شخصا هو أنا، جعلته يمشي بين الناس ويتصرف بالأنا الجديدة التي تكونت نتيجة هذه الأفكار. جعلته يصل إلى أعلى درجات الغضب لله فيطلق طلقة "من بندقية صيد" على كرة تلعب بها جاراته. وجعلته يلتزم بصلاة الفجر ويدور على أصحابه ليوقظهم لها. وجعلته يعرض حياته للخطر مع الفارين من ملاحقة الأمن لكي تستمر الدعوة الإسلامية حية في أسيوط. جعلته يضعف أمام جسده فيتلصص على بنات الجيران لكي يتعرف – وهو في سنين مراهقته – على ما خفي عنه. وجعلته – بفضل الجماعة – يتخلص من خجله ويقف بين الناس خطيبا. رسمت صورة إنسان حقيقي من لحم ودم يمشي على رجلين.
فلماذا منعوا الكتاب؟
سخرت فيه من الشيخ الموظف الذي يأتي إلى مدرستنا ليعلمنا "الإسلام الصحيح"، فنستدرجه إلى ساحتنا. ينطبق عليه المثل المصري المبدع "جاي يبيع المية في حارة السقايين". حين يستشهد لنا بآية قرآنية نستشهد له بعشرة. وحين يذكر حديثا نبويا نخرِّجه له (نصنفه صحيحا أو ضعيفا أو مردودا). نجهز له كتب الأئمة "الثقاة" الذين يتباهى بهم علينا المشايخ ونفاجئه أننا – نحن أبناء الخامسة عشرة – نعرف مواضع الفتوى أفضل منه. والرسالة بسيطة كما ذكرتها في الكتاب، أن الإمام علي قال لأبو موسى الأشعري حين ذهب للتحكيم أمام عمرو بن العاص: "لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمال أوجه". فالدين، أي دين، يفسر على مليون وجه ووجه. والنص، أي نص، هو وصفة لا تخطئ لغرق العقل وضياع أهم صفة لبقاء الحضارة، التجريب والبحث عن الجديد.
وتحدثت بلا مبالغة، مقتصرا على ما رأيته فقط، عن التعذيب في السجون، السيمة في وجه النظام المصري. وعن دولة اللاقانون التي تسمح بإجراء تحقيق مع الطلاب، على يد محام تابع للجامعة، في مركز غير قانوني للاعتقال، وهم جاثون على ركبهم ومشبكون أيديهم خلف رؤوسهم. أشرت بلا تنظير إلى طبقة ضاعت في المتاهة المصرية، طبقة المتعلمين وأبنائهم، الذين لا يجدون دورا في جمهورية التوريث على كل المستويات.
لم أسمح لأحد أن يهلل للكتاب ويستخدمه دليل إدانة ضد أبناء الجماعات الإسلامية فقط، لأن الإدانة للنظام السياسي تسير معها متشابكة الأيدي.
أكيد لن يسمحوا للكتاب بالتداول. والحجة دائما جاهزة: الكاتب يتحدث عن مشاهدة فيلم جنسي وعن شرب الخمر. وكأن أبطال السينما في مصر، الذين يتطوعون بالترويج لتوريث الحكم، لا يشربون خمرا في أفلامهم، ولا يمثلون مشاهد جنسية مع نساء "لا تحل لهم". ها ها.
كنت في الرابعة عشرة من عمري حين التحقت بالجماعة الإسلامية. وحين اعتقلت كنت في التاسعة عشرة منه. أول شيء قاله لي محقق أمن الدولة: "ده انت لسه عيل يالا". نعم في سنوات الجماعة كنت لا أزال ولدا أعيش حياة بسيطة – دنيا – في مدرستي ومع أصحابي. ألعب الكرة، وأذاكر، وأشتري أشرطة الأغاني، وأعلق زينة في رمضان. لكنني التحقت بعالم الكبار. وهؤلاء الكبار كانوا فريقين يتصارعان بخطاب سماوي آت من الجنة (الجماعة من جهة والنظام ممثلا في الشيوخ الموظفين من جهة أخرى) وحين خرجت من المعتقل أحسست أن "الدنيا أجمل من الجنة". فعدت لعاداتي البسيطة.
مانع الكتاب يقول إن عنوان الكتاب يصرح بأن "الدنيا أفضل من الآخرة". لا ألومه. فعقله النصي لا يستطيع تجاوز النص. الجنة بالنسبة له هي الآخرة، وأجمل بالنسبة له تعني أفضل. ولكي تؤتي رسالته أثرها في العوام يفسر لهم المعنى من عنده، بتعبيره الديني المجرد. ربما لو ترك لهم العنوان دون تفسير سيشغل أحدهم عقله ويأتي بمعنى مختلف. وهو، ومن يوظفه، لا يحبون المختلفين.
لا ألومه. فعقله النصي لا يعرف المجاز. والحضارات حين تتدهور لا تفهم المجاز. لأن المجاز يعني الخيال. يعني الكلمات التي تحمل من المعاني ما يتجاوزها. وهي مهمة عقلية شاقة، فهما أو إبداعا. كما أنها مهمة محفوفة بالمخاطر لأن المجاز ينحو إلى التجديد، وإلى تحمل مسؤولية المعنى والتنازل عن أمان النص. والمجاز معناه التنوع، واستحضار الخبرات الإنسانية، وإيمان صاحب المجاز بذاته كفرد قادر على الإضافة. وكلها أشياء لا يحبها تحالف النص والاستبداد.
من مل من الكلام الفارغ الذي ذكرته عاليا فله مطلق الحق،في أن يطوي الصحيفة الآن وينتقل إلى صفحات أقل مللا. لا أريد أن أثنيكم عن القراءة بقولي إنني سأبدأ هذا المقال من جديد ومن زاوية مختلفة.
ما هو الكتاب الذي أرادوه؟ هو كتاب يقول إنني عشت مع "المتطرفين" فاكتشفت أنهم على خطأ. ثم اكتشفت أن "الإسلام الصحيح" هو غير ذلك فعدت إليه. وشكرا للنظام الأمني الذي يصفه أعداؤه بالمستبد لأنه أعانني. بمعنى آخر كتاب يشبه تليفزيون الدولة الرسمي. الذي يقطع رقص وغناء النسوان بصوت الأذان. الذي يذيع مقاطع من كلمات السيد الرئيس. الذي يذيع نشرة أخبار كلها، في شقها المحلى، بشارات جميلة بمصانع مفتتحة أو استقبالات لساسة مهمين أو مشاريع منجزة. ثم يأتي الشق الدولي فنرى أن الدول الأخرى غير مستقرة، فيها حروب وبراكين وأعاصير. وفي السهرة فيلم كوميدي أو مسرحية فيها عصارة خفة الدم المصرية. ولا يسع المرء حين يغلق التليفزيون لينام إلا أن يقول: الحمد لله على اللي إحنا فيه.
وأنا لن أقول ذلك.
لأنكم يا سادة تعيشون في وهم وتريدون منا أن نعيش فيه. لأنكم يا سادة قسمتم الدنيا والآخرة، فأخذ النظام الأمني منا الدنيا وأخذتم منا الآخرة. وتقاسمتم فرق العملة. تقولون يا سادة إن الحضارة الإسلامية عظيمة. وأنا أقول إنها كذلك، لكننا نتحدث عن شيئين مختلفين.
الحضارة الإسلامية التي تتنطعون بها لم تكن حضارة الحفاظ. على العكس، كانت حضارة العلمانيين ولكن بمسميات أخرى لأن العلمانية كمصطلح لم تكن موجودة يومها. الخليفة المأمون الذي وصلت الحضارة الإسلامية في عهده إلى أوجها كان من المعتزلة. هل تنكرون ذلك؟ الخليفة المعتصم الذي تقولون لنا إن امرأة صرخت "وا معتصماه" فسير لها جيوشا تحارب الروم كان يقول بخلق القرآن، أي أنه كان بالنسبة لكم هرطيقا. هل تنكرون ذلك؟ أعظم شخصيات الثقافة الإسلامية بالمعنى الحضاري للكلمة هم ابن سينا والفارابي وابن رشد. وكلهم في عرفكم هراطقة. هل تنكرون ذلك؟
لن تجرؤوا على نكران ذلك، لكنكم بانتهازية محض تستخدمون أسماءهم لكي تروجوا لسلعة مختلفة. سلعة تحجر على الفكر وتلتزم النص وتعد الفقراء بجنة يدخلونها قبل الأغنياء بخمسمئة عام. تقولون لهم إن خليفة لم يذكر له التاريخ إنجازا ضخما كعمر بن عبد العزيز كانت حبة القمح في عهده في حجم التمرة. لكن أين هذه التمرة؟ في أي متحف؟ لا أحد يعلم. مجرد هيكل موجود في عقولكم فقط وتشغلون المساكين بالبحث عنه.
الهراطقة الذين ذكرت أسماءهم هم حضارة الإسلام، التي كانت تستوزر اليهود والنصارى، وتنقل كتب فلاسفة اليونان، وتعمر الأندلس، وتغني موشحاته، وتنقل الشعر على يد المتنبي وأبو العلاء وأبو نواس. فأين منها أنتم؟ وأين منها الوهم الذي تعمدوننا فيه؟ ألم تسألوا أنفسكم كيف وصلتنا هذه الكتب؟ لماذا لم تمنع؟ ألم يقرأ واحد منكم كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ويتساءل كيف اجتاز مقص الرقيب؟ إنكم يا سادة تدرسوننا تاريخا مزيفا، وتمنعوننا من تقديم رواية أخرى. والنتيجة أن حضارتنا العظيمة صارت مرادفة لتفجير البسطاء واغتيال المختلفين.
صدقوني، لم يكن عندي شك في أن كتابي سيمنع في مصر بمجرد أن يطبع فيها. ليس لأنه كتاب جيد، بل لمجرد أنه مختلف ويدعو إلى أن يكون الفرد مختلفا. والمفارقة أن هذا حدث وقد أعدت كتابته بضعف حجمه الأول لكي أقول فيه ما كنت مترددا في قوله قبل ثماني سنوات. بقدر أقل من التردد والإحجام، لأنه لم يعد لدينا ما نخسره. لا دنيا أجمل ولا آخرة بسلام. شكرا أنكم منعتوه، فسوف يصير أكثر انتشارا.
لا دنيا ولا جنة
خالد البري:
أفضل ما يمكن أن يحدث لكاتب في العالم العربي هو أن يمنع كتاب له. يصير بين عشية وضحاها مشهورا. على الأقل يسمع الناس بكتابه ويريد فئة لا بأس بها منهم أن يقرأوه. على سبيل المثال كتابي "الدنيا أجمل من الجنة" صار الآن يباع في طبعات غير قانونية على سور الأزبكية.
هذا وضع مزر. أن تتحول الكتب إلى قضايا في صفحة الحوادث.
منعت من قبل كتب لكتاب يستحقون، بسبب أفكارهم الأصلية غير المسبوقة، أن يكونوا مثارا للجدل. كتبهم كانت جديرة بأن تمثل ثورة فكرية: في الشعر الجاهلي للعظيم طه حسين، وأولاد حارتنا للعظيم نجيب محفوظ، هما مثالان. لكن الكتاب الذي كتبته ونشرته دار النهار عام 2001 لا ينتمي إلى هذه الفئة من الكتب. هو مجرد كتيب أصدرته النهار محقة في سياق مجموعة من الكتب يطلق عليها "شهادات". هو ليس أكثر من شهادة كتبت بأسلوب صحفي يلامس الروائي على استحياء ووجل وتردد من حين إلى آخر.
فلماذا منع؟ ولماذا لم يفكر مانعوه أنهم بمنعه يضعونه في مكانة هو غير جدير بها؟
مجلة روزا اليوسف المصرية نشرت لي حوارا، عنونته بتساؤل مني "حد يفهمني الفرق بين الشيوخ – الذين منعوا الكتاب – وبين المتطرفين؟" هذا تساؤل لم يصدر عني، وضعته المجلة على لساني. أولا، لا أسمي طائفة من الناس المتطرفين لأنني لا أنصب نفسي حكما على فكر أحد. ربما أسمي البعض قتلة لأنهم يفعلون القتل، أو مستبدين لأنهم يفعلون الاستبداد، لكنني لا أحب كلمة متطرفين إذ لا أفهمها. وثانيا لأنها تشمل كثيرين لو كانت كما أفهمها. في كل الأحوال هذه قصة ثانوية. والأهم منها أنني لم أطرح هذا التساؤل لأنني أعرف الفرق بين الشيوخ وبين الجماعات الإسلامية.
الجماعة الإسلامية التي كتبت عن تجربتي معها، وما عاصرها من جماعات، هي كيان موجود، معروف، متسق مع ذاته، يفعل ويتحمل نتيجة أفعاله،كما أنه يضحي من أجل أفكاره التي أختلف معها تماما. لكن الشيوخ الذين لا نسمع عنهم إلا في ذيل تقرير يمنع كتابا شيء آخر. هؤلاء يكتسبون باسم الدين، المنع والفتاوى هي وسيلتهم لكسب لقمة العيش، جزء من وظيفتهم ودورهم في المجتمع. وعلى ذلك، لو أصدروا يوما فتوى تغضب من يدفع رواتبهم فسوف يفقدون هذه الرواتب أو يفقدون المنصب. والأمثلة على ذلك كثيرة. هل يستطيعون مثلا أن يغلقوا مصرفا يتعامل بالربا؟ حاشا لله. هل يستطيعون أن يصدروا فتوى ضد ما ما يعرضه جهاز إعلام الدولة؟ أعوذ بالله. هل يستطيعون أن يصدروا فتوى ضد تزوير إرادة الناخبين؟ يا قوة الله. هل يستطيعون أن يصدرو فتوى ضد سياسة يقف وراءها مجلس الأمومة والطفولة الذي ترأسه حرم رئيس الجمهورية؟ ....ببساطة، الجماعات الإسلامية هي واحدة فقط من خطاياكم، هي مولود لتحالف النص والاستبداد.
لماذا منعوا الكتاب؟ أنا أحكي عن تجربتي الشخصية. إن كنت أسأت رسم صورة لأحد في هذا الكتاب فهي صورتي أنا. حتى الأشخاص الذين تحدثت عنهم من الجماعة ذكرتهم بأحسن صفاتهم، والشخصان الوحيدان اللذان كشفت عن أسرارهما هما شخصان نبذتهما الجماعة نفسها، ورغم ذلك لم أذكر اسم أي منهما. وكتبت عنهما بلا إدانة. ألبست في كتابي الأفكار التي تستمدها الجماعة من الدين شخصا هو أنا، جعلته يمشي بين الناس ويتصرف بالأنا الجديدة التي تكونت نتيجة هذه الأفكار. جعلته يصل إلى أعلى درجات الغضب لله فيطلق طلقة "من بندقية صيد" على كرة تلعب بها جاراته. وجعلته يلتزم بصلاة الفجر ويدور على أصحابه ليوقظهم لها. وجعلته يعرض حياته للخطر مع الفارين من ملاحقة الأمن لكي تستمر الدعوة الإسلامية حية في أسيوط. جعلته يضعف أمام جسده فيتلصص على بنات الجيران لكي يتعرف – وهو في سنين مراهقته – على ما خفي عنه. وجعلته – بفضل الجماعة – يتخلص من خجله ويقف بين الناس خطيبا. رسمت صورة إنسان حقيقي من لحم ودم يمشي على رجلين.
فلماذا منعوا الكتاب؟
سخرت فيه من الشيخ الموظف الذي يأتي إلى مدرستنا ليعلمنا "الإسلام الصحيح"، فنستدرجه إلى ساحتنا. ينطبق عليه المثل المصري المبدع "جاي يبيع المية في حارة السقايين". حين يستشهد لنا بآية قرآنية نستشهد له بعشرة. وحين يذكر حديثا نبويا نخرِّجه له (نصنفه صحيحا أو ضعيفا أو مردودا). نجهز له كتب الأئمة "الثقاة" الذين يتباهى بهم علينا المشايخ ونفاجئه أننا – نحن أبناء الخامسة عشرة – نعرف مواضع الفتوى أفضل منه. والرسالة بسيطة كما ذكرتها في الكتاب، أن الإمام علي قال لأبو موسى الأشعري حين ذهب للتحكيم أمام عمرو بن العاص: "لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمال أوجه". فالدين، أي دين، يفسر على مليون وجه ووجه. والنص، أي نص، هو وصفة لا تخطئ لغرق العقل وضياع أهم صفة لبقاء الحضارة، التجريب والبحث عن الجديد.
وتحدثت بلا مبالغة، مقتصرا على ما رأيته فقط، عن التعذيب في السجون، السيمة في وجه النظام المصري. وعن دولة اللاقانون التي تسمح بإجراء تحقيق مع الطلاب، على يد محام تابع للجامعة، في مركز غير قانوني للاعتقال، وهم جاثون على ركبهم ومشبكون أيديهم خلف رؤوسهم. أشرت بلا تنظير إلى طبقة ضاعت في المتاهة المصرية، طبقة المتعلمين وأبنائهم، الذين لا يجدون دورا في جمهورية التوريث على كل المستويات.
لم أسمح لأحد أن يهلل للكتاب ويستخدمه دليل إدانة ضد أبناء الجماعات الإسلامية فقط، لأن الإدانة للنظام السياسي تسير معها متشابكة الأيدي.
أكيد لن يسمحوا للكتاب بالتداول. والحجة دائما جاهزة: الكاتب يتحدث عن مشاهدة فيلم جنسي وعن شرب الخمر. وكأن أبطال السينما في مصر، الذين يتطوعون بالترويج لتوريث الحكم، لا يشربون خمرا في أفلامهم، ولا يمثلون مشاهد جنسية مع نساء "لا تحل لهم". ها ها.
كنت في الرابعة عشرة من عمري حين التحقت بالجماعة الإسلامية. وحين اعتقلت كنت في التاسعة عشرة منه. أول شيء قاله لي محقق أمن الدولة: "ده انت لسه عيل يالا". نعم في سنوات الجماعة كنت لا أزال ولدا أعيش حياة بسيطة – دنيا – في مدرستي ومع أصحابي. ألعب الكرة، وأذاكر، وأشتري أشرطة الأغاني، وأعلق زينة في رمضان. لكنني التحقت بعالم الكبار. وهؤلاء الكبار كانوا فريقين يتصارعان بخطاب سماوي آت من الجنة (الجماعة من جهة والنظام ممثلا في الشيوخ الموظفين من جهة أخرى) وحين خرجت من المعتقل أحسست أن "الدنيا أجمل من الجنة". فعدت لعاداتي البسيطة.
مانع الكتاب يقول إن عنوان الكتاب يصرح بأن "الدنيا أفضل من الآخرة". لا ألومه. فعقله النصي لا يستطيع تجاوز النص. الجنة بالنسبة له هي الآخرة، وأجمل بالنسبة له تعني أفضل. ولكي تؤتي رسالته أثرها في العوام يفسر لهم المعنى من عنده، بتعبيره الديني المجرد. ربما لو ترك لهم العنوان دون تفسير سيشغل أحدهم عقله ويأتي بمعنى مختلف. وهو، ومن يوظفه، لا يحبون المختلفين.
لا ألومه. فعقله النصي لا يعرف المجاز. والحضارات حين تتدهور لا تفهم المجاز. لأن المجاز يعني الخيال. يعني الكلمات التي تحمل من المعاني ما يتجاوزها. وهي مهمة عقلية شاقة، فهما أو إبداعا. كما أنها مهمة محفوفة بالمخاطر لأن المجاز ينحو إلى التجديد، وإلى تحمل مسؤولية المعنى والتنازل عن أمان النص. والمجاز معناه التنوع، واستحضار الخبرات الإنسانية، وإيمان صاحب المجاز بذاته كفرد قادر على الإضافة. وكلها أشياء لا يحبها تحالف النص والاستبداد.
من مل من الكلام الفارغ الذي ذكرته عاليا فله مطلق الحق،في أن يطوي الصحيفة الآن وينتقل إلى صفحات أقل مللا. لا أريد أن أثنيكم عن القراءة بقولي إنني سأبدأ هذا المقال من جديد ومن زاوية مختلفة.
ما هو الكتاب الذي أرادوه؟ هو كتاب يقول إنني عشت مع "المتطرفين" فاكتشفت أنهم على خطأ. ثم اكتشفت أن "الإسلام الصحيح" هو غير ذلك فعدت إليه. وشكرا للنظام الأمني الذي يصفه أعداؤه بالمستبد لأنه أعانني. بمعنى آخر كتاب يشبه تليفزيون الدولة الرسمي. الذي يقطع رقص وغناء النسوان بصوت الأذان. الذي يذيع مقاطع من كلمات السيد الرئيس. الذي يذيع نشرة أخبار كلها، في شقها المحلى، بشارات جميلة بمصانع مفتتحة أو استقبالات لساسة مهمين أو مشاريع منجزة. ثم يأتي الشق الدولي فنرى أن الدول الأخرى غير مستقرة، فيها حروب وبراكين وأعاصير. وفي السهرة فيلم كوميدي أو مسرحية فيها عصارة خفة الدم المصرية. ولا يسع المرء حين يغلق التليفزيون لينام إلا أن يقول: الحمد لله على اللي إحنا فيه.
وأنا لن أقول ذلك.
لأنكم يا سادة تعيشون في وهم وتريدون منا أن نعيش فيه. لأنكم يا سادة قسمتم الدنيا والآخرة، فأخذ النظام الأمني منا الدنيا وأخذتم منا الآخرة. وتقاسمتم فرق العملة. تقولون يا سادة إن الحضارة الإسلامية عظيمة. وأنا أقول إنها كذلك، لكننا نتحدث عن شيئين مختلفين.
الحضارة الإسلامية التي تتنطعون بها لم تكن حضارة الحفاظ. على العكس، كانت حضارة العلمانيين ولكن بمسميات أخرى لأن العلمانية كمصطلح لم تكن موجودة يومها. الخليفة المأمون الذي وصلت الحضارة الإسلامية في عهده إلى أوجها كان من المعتزلة. هل تنكرون ذلك؟ الخليفة المعتصم الذي تقولون لنا إن امرأة صرخت "وا معتصماه" فسير لها جيوشا تحارب الروم كان يقول بخلق القرآن، أي أنه كان بالنسبة لكم هرطيقا. هل تنكرون ذلك؟ أعظم شخصيات الثقافة الإسلامية بالمعنى الحضاري للكلمة هم ابن سينا والفارابي وابن رشد. وكلهم في عرفكم هراطقة. هل تنكرون ذلك؟
لن تجرؤوا على نكران ذلك، لكنكم بانتهازية محض تستخدمون أسماءهم لكي تروجوا لسلعة مختلفة. سلعة تحجر على الفكر وتلتزم النص وتعد الفقراء بجنة يدخلونها قبل الأغنياء بخمسمئة عام. تقولون لهم إن خليفة لم يذكر له التاريخ إنجازا ضخما كعمر بن عبد العزيز كانت حبة القمح في عهده في حجم التمرة. لكن أين هذه التمرة؟ في أي متحف؟ لا أحد يعلم. مجرد هيكل موجود في عقولكم فقط وتشغلون المساكين بالبحث عنه.
الهراطقة الذين ذكرت أسماءهم هم حضارة الإسلام، التي كانت تستوزر اليهود والنصارى، وتنقل كتب فلاسفة اليونان، وتعمر الأندلس، وتغني موشحاته، وتنقل الشعر على يد المتنبي وأبو العلاء وأبو نواس. فأين منها أنتم؟ وأين منها الوهم الذي تعمدوننا فيه؟ ألم تسألوا أنفسكم كيف وصلتنا هذه الكتب؟ لماذا لم تمنع؟ ألم يقرأ واحد منكم كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ويتساءل كيف اجتاز مقص الرقيب؟ إنكم يا سادة تدرسوننا تاريخا مزيفا، وتمنعوننا من تقديم رواية أخرى. والنتيجة أن حضارتنا العظيمة صارت مرادفة لتفجير البسطاء واغتيال المختلفين.
صدقوني، لم يكن عندي شك في أن كتابي سيمنع في مصر بمجرد أن يطبع فيها. ليس لأنه كتاب جيد، بل لمجرد أنه مختلف ويدعو إلى أن يكون الفرد مختلفا. والمفارقة أن هذا حدث وقد أعدت كتابته بضعف حجمه الأول لكي أقول فيه ما كنت مترددا في قوله قبل ثماني سنوات. بقدر أقل من التردد والإحجام، لأنه لم يعد لدينا ما نخسره. لا دنيا أجمل ولا آخرة بسلام. شكرا أنكم منعتوه، فسوف يصير أكثر انتشارا.
No comments:
Post a Comment